Norhan Ahmed مديرة المنتدى
عدد المساهمات : 695 نقاط : 1371 السٌّمعَة : -1 تاريخ التسجيل : 03/06/2011 العمر : 24 الموقع : https://a7laelbanat2012.forumegypt.net المزاج : HaPpY
| موضوع: تفسير سورة الفيل الإثنين يوليو 25, 2011 7:11 am | |
| تعريف بسورة الفيل
تشير هذه السورة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة , عظيم الدلالة على رعاية الله لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النور الأخير , ومحضن العقيدة الجديدة , والنقطة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض , وإقرار الهدى والحق والخير فيها . .
وجملة ما تشير إليها الروايات المتعددة عن هذا الحادث , أن الحاكم الحبشي لليمن - في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسي منها - وتسميه الروايات:"أبرهة " , كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة وجمع لها كل أسباب الفخامة , على نية أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة , وقد رأى مبلغ انجذاب أهل اليمن الذين يحكمهم إلى هذا البيت , شأنهم شأن بقية العرب في وسط الجزيرة وشماليها كذلك . وكتب إلى ملك الحبشة بهذه النية . .
ولكن العرب لم ينصرفوا عن بيتهم المقدس , فقد كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل صاحبي هذا البيت , وكان هذا موضع اعتزازهم على طريقتهم بالفخر والأنساب . وكانت معتقداتهم - على تهافتها - أفضل في نظرهم من معتقدات أهل الكتاب من حولهم , وهم يرون ما فيها من خلل واضطراب وتهافت كذلك .
عندئذ صح عزم "أبرهة " على هدم الكعبة ليصرف الناس عنها ; وقاد جيشا جرارا تصاحبه الفيلة , وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم . فتسامع العرب به وبقصده . وعز عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم . فوقف في طريقه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر , فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن البيت الحرام , فأجابه إلى ذلك من أجابه . ثم عرض له فقاتله , ولكنه هزم وأخذه أبرهة أسيرا .
ثم وقف له في الطريق كذلك نفيل ابن حبيب الخثعمي في قبيلتين من العرب ومعهما عرب كثير , فهزمهم كذلك وأسر نفيلا , الذي قبل أن يكون دليله في أرض العرب .
حتى إذا مر بالطائف خرج إليه رجال من ثقيف فقالوا له:إن البيت الذي يقصده ليس عندهم إنما هو في مكة . وذلك ليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه للات ! وبعثوا معه من يدله على الكعبة !
فلما كان أبرهة بالمغمس بين الطائف ومكة , بعث قائدا من قواده حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم , فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم , وهو يومئذ كبير قريش وسيدها . فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله . ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة رسولا إلى مكة يسأل عن سيد هذا البلد , ويبلغه أن الملك لم يأت لحربهم وإنما جاء لهدم هذا البيت , فإن لم يتعرضوا له فلا حاجة له في دمائهم ! فإذا كان سيد البلد لا يريد الحرب جاء به إلى الملك . . فلما كلم عبد المطلب فيما جاء به قال له:والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة . هذا بيت الله الحرام . وبيت خليله إبراهيم عليه السلام . . فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه , وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه . . فانطلق معه إلى أبرهة . .
قال ابن إسحاق:وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم . فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه , وأكرمه عن أن يجلسه تحته , وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه . فنزل أبرهة عن سريره , فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جانبه . ثم قال لترجمانه:قل له:ما حاجتك ? فقال:حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال ذلك , قال أبرهة لترجمانه:قل له:قد كنت أعجبتني حين رأيتك , ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ! أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ? قال له عبد المطلب:إني أنا رب الإبل . وإن للبيت رب سيمنعه . قال:ما كان ليمتنع مني . قال:أنت وذاك ! . . فرد عليه إبله .
ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر , وأمرهم بالخروج من مكة , والتحرز في شعف الجبال . ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة , وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه . وروي عن عبد المطلب أنه أنشد:
لاهم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك .
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك !
فأما أبرهة فوجه جيشه وفيله لما جاء له . فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها , وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا . وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله [ ص ] يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة , فقالوا:خلأت القصواء [ أي حرنت ] فقال رسول الله [ ص ] " ما خلأت القصواء , وما ذاك لها بخلق , ولكن حبسها حابس الفيل . . " وفي الصحيحين أن رسول الله [ ص ] قال يوم فتح مكة:" إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين , وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس , ألا فليبلغ الشاهد الغائب " , فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل . .
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده , فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر , فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة . كما يحكي عنهم القرآن الكريم . . وأصيب أبرهة في جسده ,وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة , حتى قدموا به صنعاء , فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات . .
وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير , وأشكالها , وأحجامها , وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها . كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة .
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات , وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها , أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى . وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات , فالطير هو كل ما يطير .
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم:
"وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة . . قال عكرمة:وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب . وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث:إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام . وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله . فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين , وأصيب الجيش , ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة , وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء" .
"هذا أول ما اتفقت عليه الروايات , ويصح الاعتقاد به . وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح" .
"فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض , وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات , فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه , فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه . وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر , وأن هذا الحيوان الصغير - الذي يسمونه الآن بالمكروب - لا يخرج عنها . وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها . . ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين , على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال , ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب , ولا على أن يكون له ألوان خاصة به , ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها . . فلله جند من كل شيء " .
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
"وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته . فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت , أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة , فأهلكته وأهلكت قومه , قبل أن يدخل مكة . وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه - على وثنيتهم - حفظا لبيته , حتى يرسل من يحميه بقوة دينه [ ص ] وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه , ولا ذنب اقترفه" .
"هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة . وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل , إن صحت روايته . ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل - وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما - ويهلك , بحيوان صغير لا يظهر للنظر , ولا يدرك بالبصر , حيث ساقه القدر . لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر !! " .
ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الاستاذ الإمام - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم - أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو(العصف). . لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله , ولا أولى بتفسير الحادث . فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع . ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره , ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس , المعهودة المكشوفة لعلمهم هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر , وغير المعهود المكشوف لعلمهم , فحققت قدره ذاك .
إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه . وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفا يسيرا يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون , وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل , فهذه الخوارق - كما يسمونها - هي من سنة الله . ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه !
ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها - متى صحت الرواية - أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة , ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم . وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف . فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر . . إن طلوع الشمس وغروبها خارقة - وهي معهودة كل يوم - وإن ولادة كل طفل خارقة - وهي تقع كل لحظة , وإلا فليجرب من شاء أن يجرب ! وإن تسليط طير - كائنا ما كان - يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض , في هذا الأوان , وإحداث هذا الوباء في الجيش , في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت . . إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير . وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيرا خاصا يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلا خاصا في اللحظة المقررة . . هذه من تلك . . هذه خارقة وتلك خارقة على السواء . .
فأما في هذا الحادث بالذات , فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة , وأن الله أرسل طيرا أبابيل غير معهودة - وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيرا , نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها ! - تحمل حجارة غير معهودة , تفعل بالأجسام فعلا غير معهود . .
نحن أميل إلى هذا الاعتبار . لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة . ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب . فقد كان الله - سبحانه - يريد بهذا البيت أمرا . كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا ; وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة , في أرض حرة طليقة , لا يهيمن عليها أحد من خارجها , ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها . ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال , حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة , ويضربها مثلا لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها . . فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود , بكل مقوماته وبكل أجزائه . ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ . .
وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده ,فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا وأنملة أنملة , ولا يشق الصدر عن القلب . .
وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني: (فجعلهم كعصف مأكول). . إيحاء مباشرا قريبا .
ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصا في أن الجيش أصيب بالجدري . فهي لا تزيد على أن تقول:إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة . ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض . . ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كان الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل . وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر ! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله ?!
إننا ندرك ونقدر دوافع المدرسة العقلية التي كان الأستاذ الإمام - رحمه الله - على رأسها في تلك الحقبة . . ندرك ونقدر دوافعها إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ , ومحاولة ردها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونية . . فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة ; كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها , كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها , وموجة الشك في مقولات الدين إلى قمتها . فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل . ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير . كما تحاول أن تنشئ عقلية دينية تفقه السنن الكونية , وتدرك ثباتها واطرادها , وترد إليها الحركات الإنسانية كما ترد إليها الحركات الكونية في الأجرام والأجسام - وهي في صميمها العقلية القرآنية - فالقرآن يرد الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة .
ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى تركت آثارها في تلك المدرسة . من المبالغة في الاحتياط , والميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هو القاعدة الكلية لسنة الله . فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده - كما شاع في تفسير تلميذيه الأستاذ الشيخ رشيد رضا والأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي - رحمهم الله جميعا - شاع في هذا التفسير الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها , وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه "المعقول" ! وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات .
ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة لمثل هذا الاتجاه , فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه , وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل . وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته من وراء السنن التي اختارها - سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف - هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير . ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه - كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة .
هذا إلى جانب أن المألوف من سنة الله ليس هو كل سنة الله . إنما هو طرف يسير لا يفسر كل ما يقع من هذه السنن في الكون . وأن هذه كتلك دليل على عظمة القدرة ودقة التقدير . .
وكل ذلك مع الاحتياط من الخرافة ونفي الأسطورة في اعتدال كامل , غير متأثر بإيحاء بيئة خاصة , ولا مواجهة عرف تفكيري شائع في عصر من العصور !!!
إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية , لعل هنا مكان تقريرها . . إنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة . لا مقررات عامة . , ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص . بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا . فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية , ومنها نكون قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعا ; فإذا قررت لنا أمرا فهو المقرر كما قررته ! ذلك أن ما نسميه "العقل" ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية هو إفراز واقعنا البشري المحدود , وتجاربنا البشرية المحدودة .
وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيد بمفردات التجارب والوقائع بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها , إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري . وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند الله . والقرآن صادر عن هذا المطلق فهو الذي يحكمنا . ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها . ومن ثم لا يصلح أن يقال:إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل فلا بد من تأويله - كما يرد كثيرا في مقررات أصحاب هذه المدرسة . وليس معنى هذا هو الإستسلام للخرافة . ولكن معناه أن العقل ليس هو الحكم في مقررات القرآن . ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا , ويكف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها , وتجاه الحقائق الكونية الأخرى . .
ونعود من هذا الاستطراد إلى سورة الفيل , وإلى دلالة القصة . .
(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ?). . وهو سؤال للتعجيب من الحادث , والتنبيه إلى دلالته العظيمة . فالحادث كان معروفا للعرب ومشهورا عندهم , حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ . يقولون حدث كذا عام الفيل , وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين , وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات . . والمشهور أن مولد رسول الله [ ص ] كان في عام الفيل ذاته . ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة !
وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها , إنما كانت تذكيرا بأمر يعرفونه , المقصود به ما وراء هذا التذكير . .
ثم أكمل القصة بعد هذا المطلع في صورة الاستفهام التقريري كذلك:
(ألم يجعل كيدهم في تضليل ?). . أي ألم يضل مكرهم فلا يبلغ هدفه وغايته , شأن من يضل الطريق فلا يصل إلى ما يبتغيه . . ولعله كان بهذا يذكر قريشا بنعمته عليهم في حماية هذا البيت وصيانته , في الوقت الذي عجزوا هم عن الوقوف في وجه أصحاب الفيل الأقوياء . لعلهم بهذه الذكرى يستحون من جحود الله الذي تقدمت يده عليهم في ضعفهم وعجزهم , كما يطامنون من اغترارهم بقوتهم اليوم في مواجهة محمد [ ص ] والقلة المؤمنة معه . فقد حطم الله الأقوياء حينما شاءوا الاعتداء على بيته وحرمته ; فلعله يحطم الأقوياء الذين يقفون لرسوله ودعوته .
فأما كيف جعل كيدهم في تضليل فقد بينه في صورة وصفية رائعة: (وأرسل عليهم طيرا أبابيل , ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول). . والأبابيل:الجماعات . وسجيل كلمة فارسية مركبة من كلمتين تفيدان:حجر وطين . أو حجارة ملوثة بالطين . والعصف:الجاف من ورق الشجر . ووصفه بأنه مأكول:أي فتيت طحين ! حين تأكله الحشرات وتمزقه , أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه ! وهي صورة حسية للتمزيق البدني بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير . ولا ضرورة لتأويلها بأنها تصويرلحال هلاكهم بمرض الجدري أو الحصبة .
فأما دلالة هذا الحادث والعبر المستفادة من التذكير به فكثيرة . .
وأول ما توحي به أن الله - سبحانه - لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين , ولو أنهم كانوا يعتزون بهذا البيت , ويحمونه ويحتمون به . فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له وغيرته عليه ترك المشركين يهزمون أمام القوة المعتدية . وتدخلت القدرة سافرة لتدفع عن بيت الله الحرام , حتى لا تتكون للمشركين يد على بيته ولا سابقة في حمايته , بحميتهم الجاهلية . ولعل هذه الملابسة ترجح ترجيحا قويا أن الأمر جرى في إهلاك المعتدين مجرى السنة الخارقة - لا السنة المألوفة المعهودة - فهذا أنسب وأقرب . .
ولقد كان من مقتضى هذا التدخل السافر من القدرة الإلهية لحماية البيت الحرام أن تبادر قريش ويبادر العرب إلى الدخول في دين الله حينما جاءهم به الرسول [ ص ] وألا يكون اعتزازهم بالبيت وسدانته وما صاغوا حوله من وثنية هو المانع لهم من الإسلام ! وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم , والتعجيب من موقفهم العنيد !
كذلك توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدر لأهل الكتاب - أبرهة وجنوده - أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة . حتى والشرك يدنسه , والمشركون هم سدنته . ليبقي هذا البيت عتيقا من سلطان المتسلطين , مصونا من كيد الكائدين . وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة , لا يهيمن عليها سلطان , ولا يطغى فيها طاغية , ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان وعلى العباد , ويقود البشرية ولا يقاد . وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام !
ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن , إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية , ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة . فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته مشركون , سيحفظه إن شاء الله , ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين !
والإيحاء الثالث هو أن العرب لم يكن لهم دور في الأرض . بل لم يكن لهم كيان . قبل الإسلام . كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة . وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحيانا تقوم تحت حماية الفرس . وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم إما مباشرة وإما بقيام حكومة عربية تحت حماية الرومان . . ولم ينج إلا قلب الجزيرة من تحكم الأجانب فيه . ولكنه ظل في حالة بداوة أو في حالة تفكك لا تجعل منه قوة حقيقية في ميدان القوى العالمية . وكان يمكن أن تقوم الحروب بين القبائل أربعين سنة , ولكن لم تكن هذه القبائل متفرقة ولا مجتمعة ذات وزن عند الدول القوية المجاورة . وما حدث في عام الفيل كان مقياسا لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي .
وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه . وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب . قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش , وتتولى قيادة البشرية , بعد أن تزيح القيادات الجاهلية المزيفة الضالة . . ولكن الذي هيأ للعرب هذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نسوا أنهم عرب ! نسوا نعرة الجنس , وعصبية العنصر , وذكروا أنهم ومسلمون . مسلمون فقط . ورفعوا راية الإسلام , وراية الإسلاموحدها . وحملوا عقيدة ضخمة قوية يهدونها إلى البشرية رحمة وبرا بالبشرية ; ولم يحملوا قومية ولا عنصرية ولا عصبية . حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها لا مذهبا أرضيا يخضعون الناس لسلطانه . وخرجوا من أرضهم جهادا في سبيل الله وحده , ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها , ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها , ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم ! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده , كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد:"الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " .
عندئذ فقط كان للعرب وجود , وكانت لهم قوة , وكانت لهم قيادة . . ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله . وقد ظلت لهم قوتهم . وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة . حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم , وتركوا راية الله ليرفعوا راية العصبية نبذتهم الأرض وداستهم الأمم , لأن الله قد تركهم حيثما تركوه , ونسيهم مثلما نسوه !
وما العرب بغير الإسلام ? ما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة ? وما قيمة أمة لا تقدم للبشرية فكرة ? إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة . والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحوا الشرق , والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلا , إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها . والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية , وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة , فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة , ولم يعد لهم في التاريخ دور . . وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيدا إذا هم أرادوا الحياة , وأرادوا القوة , وأرادوا القيادة . . والله الهادي من الضلال . . | |
|